مصدر المعرفة عند التجريبيين (المذهب التجريبي)
الفكرة الأساسية في المذهب التجريبي هي أن: كل معرفتنا تنشأ عن التجربة التي ندركها مباشرة بالحواس. ولقد اتخذ المذهب التجريبي صوراً شــتى تجمع كلها على رفض التســليم بوجود أفكار فطرية موروثة، أو مبادئ عقلية بديهية، أو أحكام عقلية ســابقة على التجربة، والعقل كما يراه التجريبيون، يولد صفحة بيضاء، والمعرفة تتكون مما تأتي به الحواس عن طريق التجربة المباشرة، التي تخط على هذه الصفحة البيضاء. والنزعة الحسية قديمة، نجدها في الفلسفة اليونانية عند الذريين والأبيقوريين، وكانت أكثر ً وضوحا لدى السوفســطائيين، وكذلك عند أرســطو الذي أكد على أهمية الإحســاس لحصول المعرفة وإن كان انتهى إلى ان المعرفة أو العلم الحقيقي هو العلم بالكليات (الكليات تعني: الأفكار التي يدركها العقل في الأشياء، ويحصل عليها باستخلاصها من المحسوسات. فمن خلال رؤيتي لآلاف البشر يتكون في ذهني تصور عن الإنسان. أو مفهوم الإنسان.) أي لابد للمعرفة من فعل العقل. أما في العصر الحديث فهناك العديد من ممثلي هذا المذهب من أشــهرهم توماس هوبز، وجون لوك، وديفيد هيوم، وجون ستيوارت ميل، وكلهم من الفلاسفة الإنجليز، والفيلسوف الفرنسي كوندياك، وغيرهم. هذا وسوف نلقي الضوء على موقف المذهب التجريبي فيما يتعلق بمصادر المعرفة، من خلال اثنين من أبرز ممثليه وهما: جون لوك وديفيد هيوم.
جون لوك J. Lock ( ١٧٠٤ – ١٦٣٢)
أول من جعل مشكلة المعرفة الإنسانية ً موضوعا لبحث مستقل منظم هو الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي اتبع منهج التحليل الدقيق، محاولا ً أن يحدد طبيعتها وأصلها، ودرجة اليقين فيها.
مذهبه التجريبي:
يبني «لوك» مذهبه في المعرفة على مبدأين أساسيين هما:
(أ) رفض وجود أفكار فطرية، أو أحكام عقلية سابقة على التجربة.
(ب) الحواس والتجربة الحسية هما مصدر كل معرفة.
تحليل التجربة عند «لوك»:
يرى «لوك» أن هناك نوعين من التجربة يمدان العقل بالمعرفة وعن طريقهما يكتسب الأفكار، وهما:
أ – التجربة الخارجية: (الحواس الخمس):
وهي المعرفة التي يحصلها الإنسان عن طريق استخدامه للحواس الخمس بتأثير الأشياء الخارجية.
ب – التجربة الداخلية:
وهي المعرفة التي يكتسبها الإنسان عن طريق إحساسه الداخلي: كالإحساس بالجهد والحرارة والحركة …. وما اكتسبته النفس بوساطة الحواس.
وعلى ذلك فالتجربة الحســية لا تشــمل الحواس الخارجية فقط، بل تشمل الحواس الداخلية ً أيضا، بالإضافة إلى التأملات والأفكار التي تتولد عن هذه التجربة. ويتيح «لوك» بذلك دوراً للعقل ً جنبا إلى جنب مع التجربة الحسية في حصول المعرفة، لكنه يعطي السبق للتجربة كمصدر للمعرفة.
تحليل الأفكار الناتجة عن التجربة:
ميز «لوك» بين نوعين من الأفكار:
أ – الأفكار البسيطة: ومصدرها الإحســاس والتفكيــر وهي على أربعة أنواع
(1) أفكار صــادرة عن حس واحد (الألوان والأصــوات).
(2) أفكار ناتجة عن عدة حواس (الامتداد، الحركة).
(3) أفكار صادرة عن التأمل (التذكر، التخيل).
(4) أفكار صادرة عن الإحساس والتأمل ً معا (الوجود، القوة).
ومهمة العقل هي الربط أو الفصل بين الأفكار البسيطة.
ب – الأفكار المركبة:
ويركبهــا العقل من الأفكار البســيطة، وهي إما أفكار مركبة عن صفات عرضية للأشــياء بوســاطة (الجمــع)، أو عــن العلاقات بين الأشــياء (المقارنة) أو عن الصفات الجوهرية للأشــياء (التجريد)، هذه الأفكار المركبة والتي هي من صنع العقل مصدرها الأفكار البســيطة، ولا يمكن للعقل أن يكونها قبل أن تصله عن الشيء الخارجي. وهــو هنا يؤكد على أن الإحســاس والإدراك هما اللذان يمــدان الذهن بالأفكار، ومعنى هذا أننا لو عجزنا عن الإحساس والإدراك لاستحالت المعرفة.
2. ديفيد هيوم D. Hume (م١٧٧٦ – ١٧١١)
ينكر الفيلسوف الإنجليزي «هيوم» وبصورة حاسمة، كل معرفة أولية «سابقة» على التجربة الحسية.
تحليل المعرفة عنده:
كل معارفنا تتألف من الإدراكات الحسية التي تأتي من التجربة.
ويقسم «هيوم» هذه الإدراكات من حيث درجة وضوحها إلى قسمين:
أ – الانطباعات الحسية: وهي الصور الحســية التي تنقلها الحواس من موضوع ماثل أمامي، لذلك فهي قوية ناصعة، كصورة الشجرة الموجودة أمامي الآن.
ب – الأفكار: تصبح الانطباعات الحســية أفكاراً بعد زوال المؤثر الحســي الذي أنتجها عندما تسترجع مع صورة الشــجرة بعــد ذلك، ولهذا فهي أقل ً وضوحــا، وأضعف تأثيراً من الانطباعات، وهي إما بســيطة (صورة لانطباع معين) أو مركبة من عدة انطباعات.
ويقول: كل فكرة في الذهن كانت في أصلها أثراً ً حسيا مصدره التجربة المباشرة، ومن ثم فإن جميع معارفنا يمكن أن ترد بكاملها إلى ادراكات حســية مختلفة، ويســتحيل أن نجد بين أفكارنا – مهما بلغت مــن التركيب – فكــرة واحدة لا يمكن تعقبها إلىالانطباع أو الانطباعات الحســية التي أتت بها إدراكاتنا المختلفة، والدليل على ذلك أننا نجد في حياتنا أن من ْ يفقد حاسة ما، ْ يفقد بالتالي الأفكار المترتبة عليها، فالأصم لا يعرف ً شيئا عن عالم الأصوات … إلخ.
كيف تترابط الأفكار عند هيوم؟
ارتباط الأفكار وتكوين المعاني:
يرى «هيوم» أن الأفكار ترتبط بعضها ببعض ً وفقا لقوانين تداعي المعاني، وهي:
(أ) التشــابه: الفكرة تستدعي فكرة أخرى إذا كان بينهما تشــابه فإننا نلاحظ (التمثال يستحضر في الذهن صورة من يمثله).
(ب) التجاور المكاني: الميناء يبعث على التفكير في البواخر لما بينهما من تجاور مكاني.
(ج) التجاور الزماني: الفكرة تستدعي فكرة أخرى إذا وقعتا في زمن واحد (الغزو العراقي للكويت، والثاني من أغسطس).
(د) ّ العلية: ذكر الميكروب يدفعنا للتفكير في المرض نظراً لرابطة العلية وبوساطة القوانين السابقة تتكون المعاني الكلية.
مثال: كلمة «إنســان» هــي معنى كلي تكون نتيجة لارتباط عدة أفــكار جزئية بعضها ببعض لوجود تشابه بينها.
معيار صدق الأفكار عند هيوم:
بموجــب مذهبه فإن اختبار صدق الفكرة يكــون بتحليلها وردها إلى مصدرها في التجربة، والفكرة التي لا نجد لها أصلا في التجربة تعد فكرة باطلة.
وفقا لمعيار الصدق هذا يحلل «هيوم» بعض الأفكار الهامة في الفلسفة كفكرة السببية (العلية) كالتالي:
تحليل فكرة السببية:
«الســببية» هــي الاعتقاد بأن لكل ظاهرة علة, أو ســببا، لوجود علاقة أو ارتباط بين شــيئين بحيث إذاحدثت العلّة حدث المعلول. ويرى هيوم أن مبدأ العلّية أو الســببية لا يتضمن أي نوع من الضرورة أوالحتمية، إذ هو ليس ســوى عادة ذهنية ترســخت عن طريق التكرار، وليس في وســع التجربة أن تبرهن على وجوب التشابه بين المستقبل والماضى. فاعتيادنا أن نرى شيئين متعاقبين يجعلهما يرتبطان بعضهما ببعض في أذهاننا عن طريق تداعي المعاني، وبالتالي نعتقد من مجرد هذا التعاقب أن ثمة علاقة ضروريةّ بينهما نســميها «الســببية» بحيث إذا حدث السابق (العلّة) توقعنا حدوث اللاحق (المعلول)، وكأننا نعتقد أن الســابق يخلق اللاحق بالضرورة في حين لا تثبت التجربة مثل هذه الضرورة، فوضع القدر على النار يجعلنــا نتوقع غليان المــاء لأننا اعتدنا ذلك، لكن ليس في حكم العقل مــا يوجب ذلك ومن ثم ففكرة الضرورة السببية باطلة.