الصف الثاني عشرلغة عربية

نص اثرائي انشودة المطر لمادة اللغة العربية للصف الثاني عشر الفصل الدراسي الثاني

نص اثرائي انشودة المطر لمادة اللغة العربية للصف الثاني عشر الفصل الدراسي الثاني لمنهج سلطنة عمان

نص إثرائي
أنشودة المطر لبدر شاكر السباب

أتعلمين أيّ حُزن يبعث المطر؟
وكيفَ تنشج المزاريب إذا انهمز؟
وكيف يشعر الوحيدُ فيه بالضّياع؟
بلا انتهاء – كالدَّمِ المراقِ ، كالجياع،
كالحُبّ، كالأطفالِ، كالموتَى – هو المطر!
أعرف صديقا، كلما هطل مطر في الأرض، جاء يدق بقبضته جدار غرفتي صارخا: ( اُخرج، لقد جاء المطر وعلينا أن
نقرأ أنشودة السياب). فأخرج معه، دائما كنت أخرج؛ ليأخذني بسيارته ونقف على ساحل البحر والمطر يغسل كل شيء، يخرج ديوان (أنشودة المطر) ويطلب مني أن أقرأ، فيما هو يحتقن. هكذا كل شتاء. صديق مثل هذا، يقرأ المطر بدموع السياب، لن يغفر لي سهوا ولا غفلة عن الشعر، معبرا عن إعجابه الأولي ببدر، ومتوغلا معي في تحولات الفصول منذ الدرس الأول. ذلك الدرس الذي صاغ اتصال جيلنا، بالشعر بوصفه مطر الحياة على يباس الأرض. لكي يوشك
الارتباط الخرافي بين السياب والمطر أن يصبح أحد معالم الثقافة العربية المعاصرة. ليس لأن ( أنشودة المطر ) خصوصا هي واحدة من أهم التجارب الشعرية العربية، المؤسسة فحسب ، ولكن لأن الهيام الوجودي بالمطر لدى السياب، يشكل المفارقة الحياتية التي صاغت تجربة السياب الرؤيوية. فهو الشاعر العربي، الذي مات لفرط المرض والعوز بالمعنى المادي للكلمة، مات وهو يصوغ شعرا فتح لأكثر من جيل الأفق الشعري العربي برحابة نهر لا ينضب. وهنا تكمن طاقة الرؤيا التي سيصدر عنها السياب، ذاهبا نحو قدره المأساوي. ذهب غير محسود على الموت.

( أتعرفين أي حزن يبعث المطر .. ) ويطلق صديقي تنهيدة ادخرها طوال الصيف، لكي يفصح عنها تحت
مطر السياب. أتساءل أحيانا، لفرط الحرائق التي يلهبني بها صديق مثل هذا، ما إذا كان بمقدور الإنسان أن
يحمل هذا القدر من الألم، ويكون مستعدا لأن يتطوع باستعادتها كمن يستحضر أحلامه المغدورة. لكن السياب
كان يذهب إلى أبعد مما يتعثر به صديقي بين مطر وآخر. لقد كان يختزل الحزن الإنساني كله في كلمات.
وكان علينا أن ننتظر سنوات لنحيط بتجربة السياب صاعدا بعذابه الجسدي والروحي وهو يجابه الواقع.
علينا التخبط في محتملين أمام تجربة السياب التي لا تزال متاحة للدرس والتأمل كأنها تحدث الآن
محتملان كان السياب يقترحهما على مستقبلنا الشعري العربي: الخضوع لوهم الواقع باعتباره التفسير
الوحيد للشعر، وبالتالي الامتثال لكل ما تطرحه علينا تنظيرات النقد الأدبي الذي لم يكن يرى في الأدب إلا
انعكاسا للحدث العام. وهذا الاحتمال هو الأبرز والأكثر شيوعا حيث يتعرض السياب لآلته الجهنمية،
ويصبح وردة الضحايا لتلك المرحلة. الاحتمال الآخر، هو الإيمان بطاقة المخيلة بوصفها جوهرة المراصد التي
تأخذ الشاعر والشعر والقارئ نحو أفق يصدر عن الأعماق، حيث لا نكون صادقين حقا إلا هناك. وهو احتمال
اقترحته (من بين تجارب شعرية نادرة) تجربة السياب في الجانب المكبوت فيها والمسكوت عنه نقديا أكثر
الأوقات. فمعظم النقد الذي احتفى بالسياب انحاز لشائع الاحتمال الأول، لكونه يلبي متطلبات تلك اللحظة.
لكن مايبقى من تجربة السياب الرؤيوية هو ما سوف يتصل دوما الاحتمال الآخر، الذي تتأكد لنا الآن قدرته
على سبر الروح واكتشاف الجسد وتحرير الجمال على الجانبين، حيث يكون الشعر هو الحلم باعتباره كشف
الواقع وفضيحته ومجابهة الحياة فيه الصديق يطرق جدار الغرفة صارخا بي، كمن ينهر جرحا متماثلا
للنوم: (اخرج. المطر في الخارج، تعال لنقرأ السياب تحت سقفه الأثير، المطر). هكذا في كل مطر، يترك كل
مشاغله ويأتي لكي يسمع الشعر. قلت لصديقي ذات ليلة: (هل تعرف أن السياب مات بعيدا عن بيته وأهله
ووطنه؟). فاستنفر، كمن يريد أن يغفل عن الموت: (، لا تصدق، إن الشاعر لا يموت). وصرت أتيقن بخلود الشاعر كلما أعدت قراءة السياب، وأنحاز لعذابه ومعاناته ضد واقع كان يحدق به ويستهدف مصادرته بشتى
الأشكال. ففي مثل هذه المجابهة ضرب من اختبار طاقة الشعر على اختراق الحصارات كلها، مبتكرا
الوقت والمكان. ويوما بعد يوم تعلمت من السياب، في أجمل شعره، أن الشعر هو ماتكتبه وليس ما يكتبك.
بمعنى أن الشعر هو مايصدر عن ذاتك (العالم) وليس ما يصدر عن العالم (ذاتك). فعندما أتمعن في
تجربة السياب أشعر بأن بؤرة عذاباته الروحية تكمن في صراعه المأساوي بين ما يحب (ويحلم) أن يكتبه،
وبين ما يسعى (الواقع) إلى فرضه لكي يقوله عنه، وهذا ما أوقع السياب (كإنسان) في الملابسات التي
جعلته ضحية المهانات والعذاب في حياته. ففيما كان يكتشف تفجرات الشعر من جهة، وينغمس متورطا في
تفجرات الروح والجسد من جهة أخرى، كان الشاعر فيه يبرأ من الحياة متطهرا بالتجربة. وقد أتاح له كل
ذلك أن يعرف كيف تضيع الجموع في تيه الوهم، وكيف يضرب الجفاف روح الإنسان شوقا إلى أنشودة المطر،
ويعرف (كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع). وها نحن نتأكد، يوما بعد يوم، كم كان بدر شاكر السياب
وحيدا. وكأننا لسنا وحدنا في هذه الوحدة.

(أرسل إليك رفقة هذه الرسالة قصيدة لي بعنوان ) أنشودة المطر وأتمنى أن تنال رضاك وأن تكون صالحة
للنشر في (الآداب) وإنني لخجول. جدا من أن قصيدتي هذه ستشغل في مجلة (الآداب) حيزا قد يكون من
الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتي وأجدى (رسائل السياب).

  • أولا، ترى هل كان السياب يدرك أن قصيدته، التي يقدمها إلى سهيل إدريس بتواضع المبدع ورهافة
    الشاعر، سوف تكون حجر أساس في تجديد تجربة الشعر العربي المعاصر كله، وعلامة من علامات انعطافته
    الحاسمة؟
  • وثانيا: كيف يتسنى لنا العثور الآن على شاعر، يقدم قصيدته بمثل هذا التواضع، ونحن نرقب الذين
    يكتبون محاولاتهم الأولى (ليسوا شعراء كما كان السياب، ولا أقل أيضا) يمعنون تيها وغرورا وغطرسة، مما
    يدفعنا إلى الخجل مما يحدث؟ الحقيقة أن الدرس الذي تقترحه علينا تجربة السياب، هو من الغنى،
    والخصوبة بحيث يمكن أن يتحول إلى ضوء يكشف الواقع الشعري العربي الواهن، إن كان على صعيد تواضع
    المبدع أو جدية الأديب أو ضرورة حرية الشاعر الكاملة في مجابهة دوره الإبداعي. وإذا كان السياب قد صودر
    في بعض هذه الشروط، فإنه كان نموذجا جميلا في بعضها الآخر، وما علينا إلا أن نتأمل ما حولنا لكي ندرك
    مقدار التضحيات التي نالت من روحه وجسده في سبيل أن يحصل على أيام إضافية نادرة من الحياة.

أحس بأجراس خافتة، أجراس مطر وزهر، تقرع في نفسي، مبشرة بميلاد قصيدة .. هذه الليلة أو
غدا. سيكون ميلادها نعمة تنزلها السماء عليه. (رسائل السياب). في غمرة عذاباته كان الشعر يأتيه مثل
البلسم. وفيما كان جسده يتآكل بفعل الجراح (الناغرة الفاغرة) كما يصفها في إحدى رسائله، كان انهماكه
في كتابة الشعر هو الملاذ الرحيم الذي يخفف عنه تلك الأوجاع. والآن، بعد ثلاثين عاما من ذهابه، لماذا لا
نجد مفرا من شعور الخسارة، ونحن نستعيد تجربته الإبداعية، ولماذا تظل تجربة الروح والجسد عند السياب،
مدخلا متاحا دوما للإحاطة بتجربته الشعرية وكنه العذاب الذي عاشه وتعدد دلالاته؟ ليس ثمة جواب لدينا.
على العكس؛ فإن أسئلة لا تحصى يمكن أن نصادفها ونحن نتوغل، مع الوقت، في معالم حياة السياب، وملامح
إبداعه الشعري. وما أن نسمع أو نقرأ شاعرا يذكر المطر في قصيدته، حتى يحضر السياب؛ ليضعنا في ارتباك
المقاربات، كما لو أن تلك الأنشودة، قد وضعت حدًا يقاس عليه كل ما سيكتب عن المطر بعد ذلك .. ولكأننا لم نكن
نحسن اكتشاف المطر قبل السياب، ولأنّ السّياب قد أضْفى على المطر مسحة لا عهد لنا بها منذ أن كتب أنشودته.

وحين تنفجر المفارقات ساعة موته، مثلما تفجرت طوال حياته، فسوف يشارك في تشييع جثمانه، ذات
صباح ممطر، عدد قليل من أهله، وأبناء قريته الجنوبية (جيكور)، وصديقه الشاعر الكويتي علي السبتي،
الذي نقل الجثمان من المستشفى الأميري في الكويت إلى جيكور في العراق. لقد كان الشتاء يبكي على شاعر
مات غريبا على الخليج، وغريبا عنه أيضا، كما لو أن الطبيعة أرادت أن تعبر للشاعر عن محبة وتقدير لم يحصل
عليهما من البشر في حياته.

بعد ثلاثين موتا، كيف لنا أن نقرأ درس السياب؟ كيف نقرأ فيه الدم والشعر والمطر، ونستفيق على صوته
الشاحب وهو يفتح الأفق لنهر الشعر العربي الحديث، ونسمع الصدى كأنه النشيج: (يا خليج، يا واهب المحار
والردى). فإذا جاء ذلك الصديق ثانية يطرق جدار غرفتي، لكي نستعيد معا ذلك الصدى، يمكن أن أقول له:
(انظر إلى الشاعر الآن، انظر إليه، يعبر موتا بعد موت، دون أن يسفر كل هذا الليل عن بدر واحد، حيث الظلام هو
سيد الوقت والمكان).

بعد ثلاثين موتا، منذ أن غاب السياب بعيدا عن بيته، لا يزال الشاعر العربي يموت .. ولا بيت له، غير الغربة
والوحدة واليأس، فيما يرقب أحلامه مهدورة مغدورة وقبض الريح. بعد ثلاثين موتا، ماذا ينبغي أن يقال، وأكثر من
مبدع يذهبون إلى الموت نحرا أو انتحارا؟ سنقول: طوبى لمن يرى إلى السياب في موته، ويقرؤه قليلا من الشعر تحت
المطر. لقد ذهب بدر شاكر السياب غير محسود على الموت، ولسنا … على الحياة.

-قاسم حداد-

شاهد ايضا

حل جميع دروس كتاب المؤنس لمادة اللغة العربية للصف الثاني عشر الفصل الدراسي الثاني

الرابط المختصر للمقال: https://zadelm.com/?p=31711

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Alert: Content is protected !!