مصادر معرفة الخير
تمهيد:
تعددت الاتجاهات الفلســفية حــول تحديد نوع المصادر التي نعرف الخيــر بموجبها. وربما يعود ذلك التعدد إلى موقف كل اتجاه من نظرية المعرفة. فقد مربك أن العقليين يرون أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة بينما يرى التجريبيون أن كل معرفة نتوصل إليها لا بد أن تكون التجربة الحسية المصدر الوحيد الذي نستقى منه، ويحدث الأمر نفسه بالنســبة للأخلاق. فالعقليون والمثاليون يرجعون معرفتنا بالخير إلى العقل كمصدر وحيد لها، سواء أكان فعله في هذا المجال حدسيا أم ً استدلاليا. أما التجريبيون فإنهم يعودون إلى ميدان التجربة الأخلاقية كما يعيشــها الناس، لكي يســتلهموا منها معرفة الخير والشر. وتبعا لذلك سنصنّف الاتجاهات التي عالجت هذه المسألة على النحو التالي:
١ – الاتجاه التجريبي
٢ – الاتجاه العقلي الاستدلالي
٣ – الاتجاه الحدسي
٤ – الاتجاه الديني
أولا – الاتجاه التجريبي
كمــا هو معــروف لدينا في مبحث نظرية المعرفة، فإن أصحاب المذهب التجريبي الحســي رفضوا فكــرة وجود أفكار فطرية يولد الإنســان مزوداً بهــا ويعرف من خلالها، كذلك أنكــروا وجود المبادئ العقلية البديهية ورفضوا الحدس كنور فطري يدرك الإنســان الحقائق من خلاله ً إدراكا مباشــراً. لقد ّردوا جميع صور المعرفة إلى الحس، ورأوا أن التجربة هي المقياس الذي يفرق بين الخطأ والصواب، والحق والباطل، ولذلك تراهم في دراسة الأخلاق يؤكدون على نسبية القيم واختلاف الأحكام الخلقية باختلاف الزمان والمكان ّ ويردون معرفتنا بالخير والشــر إلى التجربة التي يقف فيها الناس على نوع السلوك الذي يحقق منافعهم أو يؤكد ســعادتهم والنوع الآخر الذي يوقع بهم الضرر أو يجلب لهم الشــقاء، وعلى هذا النحــو أقــام التجريبيون الأخلاق على فكرة الجــزاء وربطوا بينها وبين نتائج الأفعــال دون بواعثها. وقد أجمعوا بهذا الصدد على عدة نقاط أساسية تمثل نظريتهم في الأخلاق:
١ – معرفة الخير تتم من خلال التجربة الحسية.
٢ – الفعل الخلقي لا يستمد قيمته من ذاته وإنما من مصدر آخر هو نتائج الفعل المتمثلة في المنفعة الفردية أو الجمعية.
٣ّ – وحدوا بين عدة مفاهيم ( َ اللذة – المنفعة – السعادة) واعتبروها مجتمعة غاية الفعل الخلقي.
والجدير بالذكر أن المذهب التجريبي يمثله كل من القورينائية والأبيقورية والسوفسطائية عند «قدماء اليونان وهوبز وبنتام» وميل أصحاب مذهب المنفعة، وأصحاب الأخلاق الاجتماعية مثل أوجست كونت الوضعي وهربرت سبنســر التطوري في العصر الحديث. وسوف نختار أصحاب المذهب النفعي كمثال للاتجاه التجريبي.
أصحاب مذهب المنفعة أو اللذة (Hedonism)
يــرى أتباع هذا المذهب أن المنفعة أو َ اللذة غاية الأفعال الإنســانية ومقيــاس لخيريتها. واللذة التي يتخذها النفعيون ً مقياســا هي « َّ اللذة» بأوســع معانيها، فهي تشمل َّ اللذات الحســية والمعنوية والجسدية والعقلية. وفي طليعة الذين أيدوا هذا الاتجاه ً حديثا الفيلسوفان الإنجليزيان «بنتام» و «ستيوارت ميل».
1. جيرمي بنتام J.Bentham
حول «بنتام» الدراسات الأخلاقية إلى علم واقعي يتميز بالضبط والدقة على أساس نفسي. ففي كتابه «مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع» يرى أن ما يحفز الإنسان إلى العمل ً دائما هو الرغبة في تحصيل ّ لذاته الخاصة، وتجنب ما يتعرض له من آلام ومتاعب، حيث يقول «لقد أخضعت الطبيعة بني الإنســان لحكم ســيدين ذوي ســلطان هما « َ اللذة، والألم» إنهما يتحكمان فينا تحكما يشــمل كل ما نفعله وما نقوله وما نفكر فيه من أمور». لقد منعه تمسكه بالنزعة الواقعية الحسية من تصور «مثل أعلى» يسير السلوك الإنساني بمقتضاه. ولكنه يرى أن على الإنسان حينما يحقق مصلحته الذاتية عليه في الوقت ذاته أن يحقق مصلحة الآخرين. ومن هنا ً للمنفعة الذاتية منه للمنفعة كان شــعاره (تحقيق المصلحة الذاتية ومصلحة الآخريــن) ولكنه كان أكثر ولاء العامة بحيث يمكن الاستغناء عن الصالح العام عند حدوث أي تعارض بينه وبين الصالح الخاص.
2. J.S.Mill جون ستيوارت ميل:
يتفق «ميل» مع أستاذه «بنتام» في مبدأ المنفعة العامة، واعتبر الأخلاق ً علما وضعيا وليس معياريا يهتم بوصف سلوك الأفراد وتوجيه نشاطهم نحو سعادتهم وسعادة مجتمعهم. كما يتفق معه في أن المنفعه هي غاية السلوك الإنساني ومعيار للأحكام الخلقية، وبأن الفعل الخلقي لا يحمل قيمته في ذاته وإنما يستمد قيمته مما يترتب عليه من منفعة أو لذة خالية من الألم.
ولكنه يختلف مع «بنتام» في أنه ّوسع من قاعدة المنفعة العامة بحيث يكون هناك توافق بين المصالح الذاتية والمصالح الجماعية ً انطلاقا من مبدأ «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس» وهذا يعني أن الإنسان باستطاعته أن يحقق منفعته ومنفعه الغير. وحينما يحدث أي تعارض بينهما يحرص الإنسان على تحقيق النفع العام، لأنه ســيحصل على جزء من هذا النفــع باعتباره فرداً في المجتمع. وبهذا يرجح «ميــل» كفة الإيثار والغيرية على الأثرة والأنانية، علــى العكس من «بنتام» الذي يرجح كفة الأثرة والأنانية على الغيرية. وقد أشــار «ميل» ً أيضا إلى أن الشــعور بالأنانية يمكن أن يقل ً تدريجيا إلى أن يتحول إلى الغيرية لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، وبذلك تتحقق السعادة للفرد والجماعة ً معا. «بعد دراســتك لرأي كل من «بنتام» و«ميل» في مقياس الخير في الأفعال – انقد هذه الآراء موضحا أيهما أقرب إلى مبادئنا وقيمنا الدينية».
ثانيا – الاتجاه العقلي الاستدلالي
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الإنسان يعرف الخير والشر عن طريق الاستدلال العقلي وليس بالحدس أو التجربة الحسية ولذا فإن الأخلاق في نظر هؤلاء ليست دراسة عملية مرتبطة بزمان ومكان وإنما هي علم معياري يضع القواعد والمثل العليا الثابتة والمبادئ الأخلاقية العامة التي تحكم ســلوك الإنســان بما يتفق وطبيعته العاقلة ودون أن يتوقف ذلك على نتائج الفعل فالفعل الأخلاقي يحمل قيمته في ذاته وهي قيمة ثابتة وليست نسبية لأنها لا تتعلق بالمنفعة أو التجربة. وبذلك تصبح الإنسانية غاية قصوى للواجب بالذات ّن أن كما عبر عن ذلك «إيمانويل َكانت» في فلســفته الأخلاقية وخاصة في معالجته لفكرة الواجب فقد بين أن الإنســان يؤدي الواجب لذاته بباعث من تقدير عقلي لمبدأ الواجب (أي فعل الواجب من أجل الواجب) دون اعتبار لما يترتب عليه من نتائج.
وقد توصل «َكانت» إلى هذه الفكرة عن الواجب بعد دراسة قام بها للإنسان من حيث طبيعته وكيفية معرفته للخير والشر فهو يرى أن الطبيعة البشرية تنقسم إلى:
١ – طبيعة حسية:
وينتمي بها إلى عالم الأشياء (الواقع).
٢ – طبيعة عاقلة:
وينتمي بها إلى عالم المعقولات والملائكة.
والإنســان كائن أخلاقي بطبيعته العاقلة وليس بطبيعته الحسية. وبوصفه على هذا النحو فهو يتصف بالحرية ولذلك تراه يدرك الخير والحق والباطل ويختار من الســلوك والأفعال ما يتناســب مع إنسانيته وعقلــه وحريته، وقد يتســاءل بعضهم.. كيف تتفق فكرة الواجب مــع الحرية وهما تبدوان متناقضتين؟؟ والواقــع أن التناقــض يختفي حين نأخــذ في الاعتبار ما قلناه قبل قليل، من أن الإنســان ذو طبيعة عاقلة من صفاتها الحرية. فبالإدراك العقلي يعرف الخير والشــر ويســتدل عليهما ويميز بينهما وبإرادته الحرة يختار السلوك الذي يتمشى مع القانون الأخلاقي والذي يتناسب ومستواه العاقل، إذن فهو بهذا يتصرف وفق الواجب ً تلقائيا، أي لا تعارض بين الواجب والعقل والحرية لدى الإنسان الذي يلتزم بفعل الواجب بمقتضى عقله وإرادته الحرة. وبذلك نجد أن «كانت» قد عمم الواجب على الناس ً جميعا لاشتراكهم في العقل وحرية الإرادة. وعليه يصبح الواجب ً قانونا ً عاما للإنسانية صاغه على شكل ثلاث قواعد هي:
أ – افعل دائما بحيث تكون قاعدة فعلك صالحة ً عقليا لأن تكون قاعدة عامة. ولتفســير هذه القاعدة نســوق هذا المثال: لو أودع شخص عندك وديعة، وتوفي هذا الشخص فهل ترد الوديعة إلى ورثته؟ أم تنكرها. قبل الإجابة ارجع إلى قاعدة «َكانت» الأولى في الواجب فهي ترشدك إلى التصرف السليم في هذا الموقف.
ب – افعل دائما بحيث تعامل الإنسانية متمثلة في شخصك وفي شخص غيرك على أنها غاية وليست وسيلة. وهنا يشير إلى احترام الإنسانية فهي في حد ذاتها الغاية التي يتجه إلى تحقيقها السلوك الخلقي الذي يصدر عن كل إنســان، فلدى كل إنســان قيمة مطلقة لا يمكن أن تكون في خدمة أي منفعة مادية أي لا نخون أو نكذب أو نسرق الآخرين، لأن هذه الأفعال تعتبر رذائل وتجعل الآخرين وسائل لتحقيق مطالبنا وهم في حقيقة الأمر ليسوا كذلك حين نحترم إنسانيتهم. ّع للناس ً قانونا ً عاما.
جـ – افعل دائما بحيث تجعل إرادتك بمثابة مشرع يشر وهنا يشــير إلى حرية الإرادة والتي هي وفــق الطبيعة العاقلة لا تتعارض مع الواجب.
وهذه القواعد الثلاث تتكامل بعضها مع بعض، وتعبر عن الواجب الذي اعتمده «َكانت» لتفسير فلسفته الأخلاقية بشكل عام.
ثالثا – الاتجاه الحدسي والحاسة الخلقية
يرى أصحاب المذهب الحدســي أن الإنســان يدرك بوضوح عقلي مباشر معنى الخير والشر دونُ أن يقوم بأي استدلال، وآية ذلك أن قيمة الخير قيمة أولية واضحة متميزة بذاتها ولذا فهي تدرك ادراكا مباشــراً، وتتكشــف بســهولة ووضوح لدى الإنســان بالحدس العقلي ولا تحتاج إلى استدلال أو برهنة. فمعرفة الخير والشر معرفة كامنة في طبائع البشر لأن الإدراك الحدسي عامل مشترك لدى جميع الأفراد بســبب اشــتراكهم في ملكة واحدة هي العقل.
والواقع أن هذه الإدراكات للخير والشر هي فضائل أولية كالبديهيات الرياضية والأوليات الهندســية التي تحمل دليلها في باطنها ولذلك فهي واضحة بذاتها، ً وتبعا لذلك يرفض الحدســيون الفكرة القائلة إن الإنسان يعرف الخير والشر عن طريق سلطة خارجة عنه غيرقوة الإدراك الحدســي، فالناس لديهم عقل وفهم مشترك يستطيعون بوساطتهما معرفة الخير بذاته كمبدأ من المبادئ الخلقية الأولية، ومن أصحاب هذا المذهب:
هنري كولدر وود:
الذي حدد خصائص المبدأ الخلقي الحدسي على النحو التالي:
أ – أنه مبدأ واضح متميز بذاته.
ب – لا يحتاج إلى دليل أو برهان.
جـ – ضروري وليس عارضا، ولا ينطوي على أي تناقض.
د – عام مشترك لدى الناس ً جميعا.
هـ – يدركه الناس في كل زمان ومكان.
رابعا – الاتجاه الديني
جاء الإســلام فدعا إلى الاعتقاد بأن االله تعالى هو مصدر كل شــيء في هذا الكون. فكل ما فيه من ظواهر مختلفة ومخلوقات متنوعة، إنما هي عنه صدرت، وبه قامت وانتظمت. ولكننا نجد ً اختلافا في الرأي بين بعض الاتجاهات الدينية بصدد مصدر معرفتنا بالخير والشر نذكر منها الاتجاهين التاليين:
١ – اتجاه أهل السنة والجماعة (أهل النقل):
يرى أهل الســنة والجماعة أن ما هو خير أو شر إنما يبيّنه لنا الشرع الذي يأمرنا بفعل الخير، وينهانا عن فعل الشر، وأنه ليس هناك اجتهاد عقلي إلا ً قياسا على ما جاء به الشرع، على أن تتوافر النية الصادقة، باعتبارها الباعث الحقيقي لكل فعل خلقي حسـ ً ـنا كان أو ً قبيحا. ولأهمية النية، يشير إليها الرسول الكريم صلى االله عليه وسلم في الحديث الشريف «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى».
وهكذا، يرد أهل السنة والجماعة الخير والشر في الأفعال إلى إرادة ّ االله تعالى. فالخير ما ّحسنه الشرع وأثنى عليه، والشر ما قبّحه ّونفر منه. والإيمان بما جاء به الشرع، إنما هو إيمان بصدق ما نزل به الوحي. فالوحي عندهم هو مصدر معرفتنا بالخير والشر، وليس العقل.
٢ – اتجاه المعتزلة (أهل العقل):
مــا المعتزلة فيرون أن في الأفعــال خصائص ذاتية توجب اعتبارها خيراً أو شــراً. ّ واالله تعالى يأمر بالخير لأنه حســن في ذاته، وينهى عن الشــر لأنه قبيح في ذاته. فالخير هو ما استحسنه العقل، والشر هوما استقبحه ونفر منه، لأن ّ االله تعالى قد خلق العقل ولديه القدرة على التمييز بين الخير والشر، أو الحسن والقبح.وهذا يعني أن العقل عند المعتزلة هو مصدر معرفتنا بالخير والشــر، أو الحسن والقبيح، وهو السبيل إلى إرشاد الإنسان من الناحية الأخلاقية وبه يستحق المدح والذم والثواب والعقاب، ولا يختلف هذا مع قواعد الإســلام الأخلاقية التي تقوم على العقل السليم وتعطيه حق الحكم والأمر والنهي. فالقرآن الكريم يقرر أن النفوس طبعت على أساس أن االله تعالى ألهمها فجورها وتقواها. وبذلك لا خلاف عندهم بين ما يعرفه الإنسان بعقله وبين ما يأمر به الدين وما ينهى عنه.وبنــاء على اتجاههم العقلــي هذا، فرق المعتزلة بيــن وقوع الفعل ً مطابقا للواجــب مصادفة، وبين حدوثه من جانب الفاعل وعلى نحو أخلاقي قصداً. فالأول ليس ً فعلا ً أخلاقيا، حتى لو جاء ً مطابقا للفعل الأخلاقي، بعكس الثاني الذي توفر القصد فيه، وبذلك ســبقوا الفيلســوف (كانت) في تفرقته بين الفعل المطابق للواجب العفوي، والفعل الذي حدث بمقتضى الواجب الذي جاء عن قصد.