مفهوم الحرية عند الفلاسفة المسلمين (مشكلة الجبر والاختيار)
مقدمة:
تثير هذه القضية في الذهن سؤالا هو: كيف تنشأ المشكلة؟
مثال: لو أنني قلت مثلا: لا أستطيع أن أحكم على (س) من الناس – والذي أعرفه جيداً – بأنه كريم أم بخيل، فكيف نشأت هذه المشكلة في الحكم، إن هذه المشكلة لا تنشأ إلا إذا رأيت من هذا الشخص بعض التصرفات التي تنم عن الكرم وبعض التصرفات الأخرى التي تنم عن البخل، ومن ثم فإنني أتردد في البت في المسألة: أكريم هو أم بخيل؟ ولو أن تصرفاته كلها نمت عن الكرم لما وجد ذلك القسم من السؤال: أهو بخيل؟ ولو أنها نمت كلها عن البخل لما وجد القسم الآخر: أم هو كريم؟
وعلى هذا النمط ذاته يأتي الســؤال: الإنسان مســير ام مخير؟ فلو كان الإنسان يرى نفسه في ظاهر َّر أم مخي وعلى هذا النمط ذاته يأتي الســؤال: الإنسان مســي الحياة مجبوراً في كل أفعاله لما نشأت فكرة «أهو مخير» ولو أنه كان مخيراً في كل أفعاله لما نشأت فكرة «أهو مسير»، ومن ثم فإن هناك أفعالا ً كثيرة يجد الإنسان نفسه يفعلها دون اختيار منه، فيرى أنه ما دام لم يتوافر له خيار فيها فهو مســيَّر فيها، وكذلك هناك أشــياء كثيرة أخرى تقع على حسب ما قدر واختار، وبالتالي يرى نفسه مخيراً فيها، وعلى ذلك فهناك أمور للاختيار هو صاحبها، وأمور أخرى ليس للاختيار دخل فيها، ومن هنا نشأت المشكلة.
والإنســان الذي يدور حوله التســاؤل «مســير» هو أم «مخير» هو كائن من الكائنات الموجودة على الأرض، وليس الجنس الوحيد فيها، لكن هذا الكائن امتاز عن سائر الموجودات الأخرى بالفكر، فما معنى الفكر في الإنسان؟ الفكر يعني في الأساس المقياس الذي يختار بين البدائل، والأمر الذي لا بديل فيه لا عد ُ ُّ عمل للعقل فيه، مثل عملية النمو والإحساس، الدورة الدموية.. وغير ذلك مما لا إرادة له فيها، والتي ي فيها «مسيراً» شأنه شأن سائر الكائنات الأخرى، أما الأمور التي تعرض الأفعال فيها على العقل: افعل أو لا أفعل؟ فتلك هي حدود أو نطاق الاختيار، وضمن هذه الحدود يقع التكليف الإلهي.
مشكلة الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي:
ســنرى كيف ســتتناول الفلسفات الغربية مشكلة الحرية، ولأن هذه الفلســفات نشأت في الغرب وتشكلت بثقافته واتجاهاته الفكرية، فقد كان ً طبيعيا أن تختلف دراسة هذه المشكلة عندما يتناولها الفلاسفة العرب المسلمون لاختلاف الثقافات والاتجاهات الفكرية. فالفلسفة وإن كانت تبحث في الكليات، لا يمكن إلا أن تتشــكل في إطار معطيات الواقع الاجتماعي والحضاري الذي تنشأ فيه.
ويتضــح لنا ذلك جليا عند تناولنا للكيفية التي بحثت بها هذه المشــكلة من قبل الفلاســفة وعلماء الكلام المســلمين، بدءاً من التعبير ذاته الذي يصف المشــكلة عند هؤلاء الفلاسفة والعلماء حيث جرت تسميتها بمشكلة «الجبر والاختيار».
والواقع أن هذه المشكلة، أي الجبر والاختيار، تمثل ً موضوعا من الموضوعات الأولى التي بدأ بها الفكر الإسلامي، وقد تبلورت هذه البداية في التجربة الكلامية، في أول عهودها داخل ثلاث فرق رئيسية هي: الجبرية، والقدرية، والأشاعرة.
١ – الجبرية: هم القائلون إن الإنســان مجبر لا اختيار له ولا قوة، وأنه لا يســتطيع أن يعمل غير ما عمل، وأن االله ً لابد وأن تصدر منه ومن أشهرهم «الجهميون» أتباع «جهم بن صفوان».
موقف الجهمية من حرية الإرادة (الاختيار)
ينفي القائلون بالجبرية الفعل الحقيقي عن الإنســان ويضيفونه إلى االله، حتى أن الجبرية الخالصة – ومنهــم الجهمية – تزعم أن الإنســان على حد تعبير جهم بن صفوان «لا يقدر على شــيء» ولا يوصف بالاســتطاعة، وإنمــا هو مجبور في أفعالــه، لا قدرة له ولا اختيار، واالله هو الــذي يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلقها في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الأشياء، كما يقال أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس، إلى غير ذلك.
وعلى ذلك فالجبرية ينكرون الاختيار ويسندون أفعال الإنسان (العباد) إلى االله، أما الإنسان فلا إرادة له ولا اختيار.
مثال: نقول (سقوط الحجر) ونحن نعلم أن الحجر لا يسقط نفسه بإرادته وإنما نسبنا ذلك إليه على سبيل المجاز.
٢ – القدرية:
وهم القائلون إن الإنســان له قدرة على أعماله وأنه حر الإرادة، ومنهم المعتزلة، وكان لابد للمعتزلة من بحث هذه المشــكلة لأنها تمثل ً مبحثا ً أساســيا من مباحثهم ً وأصلا من أصول مذهبهم، أو هي على الأقل متفرعة من أصولهم الخمسة.
المعتزلة * وتأكيد حرية الإرادة للإنسان:
من هم المعتزلة؟ هم جماعة من المتكلمين أقاموا مذهبهم على النظر العقلي، فهم يؤولون الدين تأويلا يتفق والعقل، على خلاف أهل الســنة الذين كانوا يأخذون بظاهر القرآن والحديث. وقدس ميت المعتزلة بهذا الاســم لأن مؤسســها – وهو واصل بن عطاء ٩٤٧م – اختلف مع أستاذه الحسن البصري في مسألة مرتكب الكبيرة وانعزل عنه فسمي هو وأصحابه المعتزلة.
ذهــب المعتزلة إلى أن أفعــال العباد مخلوقة لهم ومن عملهــم وباختيارهم المحض، ففي قدرتهــم أن يفعلوها وأن يتركوها مــن غير دخل للقدر، وهذا الرأي الذي قال به المعتزلة يجمع بين أمرين:
الأول: إثبات الحرية الإنسانية.
الثاني: تقييد هذه الحرية بمســؤولية الإنســان عن أفعاله، ثم ربطها بالثــواب والعقاب كنتيجة لازمة طبقا لنوعية الأفعال.
والمعتزلة حين أســقطوا عن االله تعالى بعض الأفعال وأضافوها للإنســان، فقد كان ذلك ً سعيا منهم وراء مزيد من التنزيه للذات الإلهية، فاالله تعالى «لا يفعل الظلم ولا يوصف به» وأدلتهم في ذلك ما يلي:
أ – التكليف:
وهم يســتندون فيه على فكرة «الثواب والعقاب» إذ يرون أن العبد مثاب على فعله، وفي ذلك دلالة علــى أن فعلــه واقع منه، إذ لا يحســن توبيخه أو الثناء عليه بما لا يقع منــه، فلو كانت الأفعال بخلق االله لبطلت قاعدة التكليف والثواب والعقاب، ولا يعقل أن يحاســب االله فرداًعلى فعل ارتكبه إلا إذا افترض فيه الحرية، وإذا كانت حرية الإرادة تعني قدرة العبد على خلق أفعاله بنفسه فهذا لا يعني الشرك باالله لأن القدرة التي أعطاها االله للعبد محدودة عنده لكي تساعد على تنفيذ التكليفات الإلهية.
نص رقم (١): إذا رجعنا إلى كتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم، فسنجده يقول على لسان المعتزلة: قالوا: «وجدنا من فعل الجور في الشــاهد كان جائراً، ومن فعل الظلم كان ً ظالما، ومن أعان ً فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائراً ً عابثا، والعدل من صفات االله والظلم والجور منفيان عنه».
ب – العقل وحرية الإرادة:
إن الإنســان بوصفه كائنا عاقلا يســتطيع أن يميــز بين الفعل الاختياري والفعل الاضطراري. (هذه القدرة دلالة على حريته).
وبهذا وقف المعتزلة ً موقفا ً معارضا لمن يقولون بالجبر .. فعلى حين يذهب الجبريون، وعلى رأسهم «جهم بن صفوان» إلى أن الإنســان مجبر ولا إرادة حرة له ولا قدرة على خلق أفعاله، وأنه كالريشــة في مهب الريح، ذهب المعتزلة إلى أن إرادة الإنســان حرة وفي اســتطاعته أن يفعل وأن لا يفعل، وهو يفعل ما يختار.
٣ – الأشاعرة:
تنسب هذه الفرقة إلى مؤسسها «أبو الحسن الأشعري (٩٣٥م)» فقد نشأ منذ شبابه الأول على مذهب الاعتزال ولكنه لم يلبث أن أعلن على الملأ تحوله عن آراء المعتزلة.
الأشاعرة وحرية الإرادة الإنسانية: (ما حقيقة الفعل الإنساني؟)
يقول الأشاعرة: إن أفعال العباد كلها توجد بالقدرة فقط، أي بقضاء االله وقدره. ففعــل العبــد لا يعد ً فعلا له على وجه الحقيقة، ولكنه مخلــوق الله ومفعول الله أيضا، وهو ليس فعل العبد نفسه، وإذا كان للعبد ثمة استطاعة، فإن هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل ولا تتقدمه البتة.
العبد إذن عند الأشــاعرة «مجبور في قالب مختار» حيث لا توجد للعبد في رأيهم قدرة مستقلة عن الفعل فليس هناك من خالق لأي شيء غير االله وحده، وأن الصحيح هو القول بالكسب.