مناهج البحث في الصحة النفسية
تمهيد:
لكل علم ثلاثة أركان أساسية لابد من توافرها حتى يصبح علماًء وتلك الأركان هي:
١-الموضوع الذي يختص بدراسته العلم.
2 -منهج أو مناهج بحث يستخدمها العلماء والباحثون في دراسة موضوع علمهم.
٣ -سلسلة النظريات والقوانين التي يتوصل إليها العلماء والباحثون والمتعلقة بموضوع علمهم .
أن موضوع علم الصحة النفسية يهتم بالدراسة العلمية للشخصية في حالاتها النفسية المختلفة بهدف تمكينها من بلوغ حالة السلامة النفسية والعقلية والتوافق النفسي والفاعلية الاجتماعية والحياة الآمنة المطمئنة السعيدة في مجتمعها، كما يهتم بوقايتها من التعرض للاضطرابات النفسية والعقلية، وتتوزع اهتمامات علم الصحة النفسية بين مجالين إحداهما نظري معرفي والآخر عملي تطبيقي، أما الجانب النظري فهو يتمثل في دراسة وتحليل وفهم مختلف العوامل النفسية والظروف البيئية الاجتماعية التي تمكن الفرد من النمو النفسي نموا سليما، ومن اكتساب مقومات الصحة النفسية الإيجابية، والكشف عن المبادىء والقوانين المحددة لنشأة وتطور كل من السلوك العادي أو الصحي والسلوك المضطرب أو اللاتوافقي، أما الجانب العملي أو التطبيقي فيتمثل في تطبيق ما تسفر عنه المعرفة النظرية في هذا الميدان وغيره من ميادين علم النفس الأخرى ¬من مبادىء وقوانين -في اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لمساعدة الفرد على تنمية طاقاته وإمكاناته واستثمارها إلى أقصى ما يمكنه بلوغه، ومساعدته على تحقيق توافقه النفسي في مختلف المجالات التي يمارس فيها نشاطه وعلى مواجهة ما قد يعترضه من صعوبات ومشكلات بكفاءة، وتحصينه أو وقايته من الانحرافات السلوكية والاضطرابات السيكوسوماتية والنفسية والعقلية والحد من انتشارها وتشخيصها وعلاجها لدى وقوعها.
تعريف المنهج:
طريقة ذات خطوات منظمة يسلكها العالم والباحث في دراسة موضوع علمه كي يصل إلى هدفه.
معنى التنشئة اجتماعية:
عملية تعلم اجتماعي يكتسب الفرد عن طريقها صفاته وعاداته الاجتماعة.
مناهج الصحة النفسية:
هناك ثلاثة مناهج علمية أساسية في الصحة النفسية يقدم من خلالها العاملون في ميدان الصحة النفسية خدماتهم تتلخص في المستويات التالية:
الانماء
الوقاية
العلاج
تصنف مناهج البحث العلمي في الصحة النفسية على النحو التالي:
أولا-المنهج الإنمائي (الإنشائي)
يهتم في مفهوم السعادة والتوافق لدى الأسوياء ويتحقق من خلال دراسة إمكانيات الأفراد وتوجيهها ورعاية مظاهر النمو عندهم، كما يهدف إلى تهيئة الفرص والظروف بصورة تمكنهم من بلوغ أقصى ما يمكنهم بلوغه من النمو بشكل سليم والتوافق الشخصي والاجتماعي والأسري والمدرسي والمهني.
ويتضمن ذلك كل ما يبذل من جهود منظمة بالنسبة للمجتمع بأفراده وجماعاته لتنمية استعداداتهم وإمكاناتهم وقدراتهم وإشباع احتياجاتهم وميولهم بحيث يمكن لهم الشعور بالكفاءة والرضا والسعادة وتحقيق ذواتهم من جانب والإفادة من طاقاتهم في تقديم المجتمع بأقصى قدر ممكن.
مراحل تطبيق المنهج الإنمائي (الإنشائي)
١-الكشف عن إمكانات الأفراد واستعدادتهم وتطلعاتهم ومختلف الظروف والعوامل المحيطة بهم وما قد يتعرضون له من صعوبات ومشكلات.
2-توجيه الأفراد ومساعدتهم على تنمية إمكاناتهم واستعداداتهم واستغلال طاقاتهم بطريقة إيجابية، وتدريهم على المواجهة الفعالة للمشكلات والتفاعل المثمر مع بيئاتهم المادية والاجتماعية ويسهم مع المتخصصين في تأمين خدمات هذا المستوى جميع القائمين على أمر التنشئة الاجتماعية ورعاية الأطفال والشباب والمسنين سواء داخل الأسرة أم المؤسسات التعليمية والشبابية وفي وسائل الإعلام ودور العبادة والمراكز الثقافية والصحية ومن خلال الجهود الحكومية الرسمية والأهلية التطوعية.
ثانياً-المنهج الوقائي
يتضمن الوقاية من الوقوع في المشكلات والأمراض النفسية ويهتم هذا المنهج بالأفراد الأسوياء من مختلف الأعمار، كما يهتم أيضا بالمعرضين للخطر كالأطفال والمراهقين وأطفال
الأسر المتصدعة والفئات الفقيرة والمحرومة ثقافياً والأطفال اليتامى والجانحين بهدف الحد من معدلات انتشار كل ما يعوق نموهم وتوافقهم وصحتهم النفسية السليمة عملا بمبداً (الوقاية خير من العلاج).
أهداف المنهج الوقائي:
١) الوقاية:
من أسباب الانحراف والاضطرابات النفسية والعقلية للحيلولة دون وقوع الإعاقات المختلفة، وتهيئة الظروف المواتية للنمو السليم، والعمل على تحقيق السلامة والصحة الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية لاسيما خلال فترات التحول والانتقال الحرجة من مرحلة نمو إلى أخرى.
٢) الكشف والتدخل المبكرين:
وذلك بهدف تشخيص الاضطرابات ونقائص النمو والإعاقات في مراحلها الأولى ثم العمل على تدارك أسبابها ومواجهتها قبل استفحال أمرها على الفرد والعمل على تجنب الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المشكلات الناتجة عنها بحيث لا تتدهور الحالة إلى أبعد من الحد الذي وصلت إليه من ناحية ويتم الحفاظ على ما يتمتع به الفرد من إمكانيات واستعدادات يمكن تنميتها واستثمارها من ناحية أخرى.
هدف المنهج الوقائي الحد من معدلات انتشاركل ما يعوق نمو وتوافق الأفراد وصحتهم النفسية السليمة.
إن الصحة النفسية علم وقائي وعلاجي قادر على تخليص المجتمع من العناصر المهددة لأمنه وسلامته.
ثالثاً- المنهج العلاجي
يختص هذا المنهج بتقديم الخدمات العلاجية للمرضى، ولأولئك الذين يعانون من سوء التوافق بشتى أشكاله، ومن الاضطرابات النفسية والعقلية وذلك عن طريق توفير الوسائل واتخاذ الأساليب اللازمة لمساعدة هؤلاء الأفراد على تجاوز تلك الاضطرابات وبلوغ حالة التوافق الجيد والصحة النفسية السليمة.
خطوات ومراحل العلاج:
ا) تشخيص نوع الاضطراب وتحديد أسبابه من خلال دراسة الحالة وتاريخها عن طريق جمع المعلومات والبيانات اللازمة عنها بالفحص الإكلينيكي (الطبي) والاختبارات والمقاييس وملاحظة السلوك وغيرها من وسائل جمع البيانات.
2) العلاج النفسي عن طريق السيطرة على أسباب الاضطراب وعلاج أعراضه.
وتعديل السلوك اللاتوافقي وتعلم أنماط سلوكية توافقية جديدة وتنمية مقدرة الفرد على تحمل الصدمات وألوان الحرمان والصراعات والإحباطات وتقبلها، وزيادة كفاءته في مواجهتها بتعليمه أساليب أكثر جدوى وفاعلية في التغلب عليها، وتنمية مفهوم إيجابي نحو الذات وتعزيز جوانب القوة في شخصية المريض واستثمارها وتهيئة مناخ مشبع بالأمن النفسي والمساندة الوجدانية والتقبل والعلاقات الاجتماعية الدافئة، ويتم العلاج النفسي عن طريق فريق متكامل يتضمن أطباء وأخصائيين ومرشدين نفسيين وأخصائيين معالجين، وتستخدم في العلاج النفسي طرق متعددة كالعلاج التحليلي والعلاج السلوكي والعلاج العقلاني والعلاج المركز حول العميل والعلاج الديني والعلاج بالفن وبالموسيقا والعلاج البيئي الاجتماعي وغيرها، نعرض منها على سبيل المثال وبشكل موجزا ما يلى:
أ) العلاج النفسي التحليلي:
يستهدف الكشف عن الجذور العميقة للاضطراب، وعن الصراعات الأساسية الدفينة اللاشعورية، ومصادر هذه الصراعات والخروج بها إلى المستوى الشعوري، وتفسير طبيعتها ومعانيها الرمزية، وما يترتب عليها من تأثير علي عملية التوافق الشخصي والاجتماعي للفرد. كما يهدف إلى تعريف الفرد المضطرب وزيادة وعيه واستبصاره بها، ومساعدته على فهم ذاته بطريقة موضوعية، إضافة إلى تنمية مقدرته على مواجهة مخاوفه وقلقه وصراعاته ومشكلاته بطرق أكثر نضجا وإيجابية وواقعية، ويتم ذلك كله من خلال علاقة وثيقة بين الفرد المضطرب والمعالج قائمة على كل من التجاوب الانفعالي، والتنفيس الانفعالي والعقلي، والتشجيع والفهم والتفسير، والمساندة والتدعيم، والإيحاء والتدعيم باستخدام ما يلي:
التداعي الحر:
ويشجع من خلاله الفرد على إطلاق سراح أفكاره وخواطره ومشاعره دون قيد أو شرط، وبصرف النظر عن نوعية هذه الأفكار، وبما يسمح بتنحية دفاعاته والتحرر من مخاوفه، مع إعطاء أهمية خاصة للانفعالات التي يبديها والحركات التي يقوم بها خلال عملية التداعي، وكذلك مواضع عثرات لسانه وزلاته، وتردده في الكلام أو انطلاقه.
تفسير الأحلام:
وتقوم هذه الطريقة على افتراض مؤداه أن لكل حلم محتوى آخركامن باطني، وهذا المحتوى الأخير هوما يستهدف المحلل الكشف عنه والوصول إلى مغزاه عن طريق متابعة عملية إخراج الحلم وما يكتنفها من عمليات تكثيف، حذف، إدماج، نقل ورمزية.
العلاج السلوكي:
ويقوم على استخدام قوانين التعلم الشرطي الاستجابي والإجرائي، حيث ينظر السلوكيون إلى الاضطرابات العصبية على أنها سلوك متعلم عن طريق الملاحظة والتفكير والتدعيم، كما يرون أن علاجها يتم بالطريقة نفسها، ولكن عن طريق محو تعلم الاستجابات غير التوافقية وإعادة تعلم استجابات توافقية جديدة ملائمة، وذلك باتباع خطوات إجرائية معينة تتمثل في تحديد السلوك المضطرب أو اللاتوافقي، والعوامل المسئولة عن حدوثه واستمراره، ومن ثم تحديد الظروف الممكن تعديلها أو تغييرها، وعمل برنامج محدد لتعديل السلوك موضع الاهتمام ثم تعديل العلاقات القائمة بين هذه السلوك (الاستجابة غير التوافقية) وتلك المواقف التي تستثيره، أو إعادة التشريط أو التعلم بحيث يتم اكتساب أنماط سلوكية جديدة مرغوبة وتعزيزها وتثبيتها، وتستخدم عدة طرق وأساليب سلوكية في الإشراط المضاد للقلق أو الاستجابات العصابية من بينها ما يلي:
-الخفض المنتظم للحساسية: وتقوم على أساس التعويد التدريجي المنتظم لسلسلة المثيرات
المحدثة للخوف لدى الفرد من مثير ما – كالأماكن المتسعة مثلا بحيث ترتب ترتيبا هرميا من المثير الأضعف للأقوى، ثم تعرض بالطريقة نفسها على الفرد الخائف بحيث يدرب تدريجيا على الاسترخاء العضلي والعقلي في كل مرحلة، مما يؤهله إلى مزيد من الاسترخاء والارتياح في المرحلة التالية .. وهكذا حتى يزول شعوره بالخوف والقلق تتدريجيا، ويحل محله الشعور بالارتياح والثقة.
الممارسة السالبة: وتقوم على أساس أن تكرار الاستجابة اللاتوفقية إراديا أو عن قصد في غياب المنبه الأصلي، وجعلها تحت الفحص والتدقيق الشعوري المستمر من شأنه أن يؤدي
إلى التعب والملل من ناحية والنفور منها من ناحية أخرى، ومن ثم الإقلاع عن تكرارها، وقد استخدمت هذه الطريقة بنجاح في علاج حالات مص الأصابع وقضم الأظافر والتلعثم واللزمات الحركية.
¬التعزيز الإيجابي: ويفترض في هذه الطريقة أن إثابة الفرد وتشجيعه ماديا أو معنويا على إتيان سلوك ما مرغوب أو بناء يؤدي إلى تدعيمه، ويدفع به إلى تكريره ومن ثم تثبيته. ¬التعزيز السالب: ويقوم على أساس تعريض الفرد المضطرب لمثير غير سار مقدما، وأبعاده مباشرة بعد ظهور الاستجابة المرغوبة.
الغمر: وهي عكس الإزالة المنتظمة للحساسية القائمة على التدريج والاسترخاء وتقوم هذه الطريقة على إغراق الفرد المضطرب بالمثير المخيف وتعريضه له دفعة واحدة كأمر واقع عليه أن يواجهه وبشكل متكرر عبر جلسات متتابعة، ونظرا لما يترتب على ذلك من استشاره زائدة قد تؤدي إلى هلع الفرد فقد يحتاج الأمر لاستخدام بعض العقاقير المهدئة أو المطمئنة حتى تنطفىء عادة الخوف. وقد استخدم هذا الأسلوب في علاج بعض المخاوف المرضية كالخوف من الأماكن المتسعة والعالية والخوف من الماء.
العلاج بالتنفير: ويقوم على إعادة تشريط الاستجابة اللاتوافقية بمثيرات سلبية وتكرير هذه العملية وذلك وصولا إلى فعل منعكس شرطي جديد وهو الكراهية والنفور من تلك الاستجابة
وبحيث تصبح مصدرا للألم بدلا من الشعور باللذة، كتشريط تناول الكحول أو المخدرات
بعقاقير مقيئة أو مثيرة للغثيان والمغص وذلك حتى يصبح المريض قابلاً للتقيؤ أو الغثيان أو الشعور بالألم بمجرد التفكير في الخمر.
عكس العادة: وتقوم هذه الطريقة على أساس تعليم الفرد المضطرب كيف يكون واعيا باستجابته اللاتوافقية ثم تعليمه القيام باستجابة مضادة لها أو لا تنسجم معها، وذلك كالقبض
على اليدين بشدة -مثلاً – عندما تلح عليه استجابة مص الأصابع أو قضم الأظافر. بحيث يتم تكرير ذلك في الموقف العلاجي وفي مواقف الحياة اليومية مع التقليل من دافعية اللجوء للاستجابة غير المرغوبة، والحيلولة دون تدعيمها.
العلاج البيئي والاجتماعي:
ويعد من أهم أنواع العلاج نظرالما تلعبه العوامل البيئية والاجتماعية من دور في نشأة الاضطراب، ويركز هذا النوع من العلاج على الأسرة كوسط اجتماعي طبيعي يعيش فيه الفرد المضطرب ويتفاعل مع أعضائه وذلك بهدف تعديل أو تغيير نمط العلاقات والتفاعلات الاجتماعية والتأثيرات المتبادلة التي يحتمل أن يكون لهادور في الاضطراب وحتى يستشعر هذا الفرد قدرا أقل من الألم.
وينمو في الاتجاه الأكثر نضجا وفاعلية وكفاءة من الناحيتين الشخصية والاجتماعية والأكثر إمدادا له بالسعادة والصحة النفسية.
كما يهتم العلاج البيئي الاجتماعي بإعادة بناء الأسرة وزيادة التماسك وتحقيق أنماط إيجابية من الاتصال بين أفرادها، وإزالة الضغوط الأسرية على المريض أو التخفيف منها وبتهيئة بيئة أسرية خالية من عوامل التقييد والضبط الزائد والحرمان بما في ذلك علاج المشاعر والعادات والاتجاهات السلبية الوالدية في تنشئة الأبناء ونمو الفرد المضطرب وتحسين الظروف الاقتصادية والدعم الاجتماعي للأسرة، وقد يستلزم الأمر إبعاد المريض لبعض الوقت عن الجو الأسري أو بيئة العمل المشبعة بالعوامل التي ربما أدت إلى نشأة السلوك العصابي لديه ومن ثم تعزيزه وتثبيته. وجدير بالذكر أن هناك فريق متكامل يشمل جميع التخصصات يشارك ويسهم في الإجراءات التشخيصية الوقائية والعلاجية وكذلك إجراءات البحوث، والأعضاء في هذا الفريق هم الطبيب النفسي والأخصائي الاجتماعي، والمرشد النفسي، والممرض النفسي والمساعدين النفسيين .